فصل: تفسير الآية رقم (36)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: زاد المسير في علم التفسير ***


تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

‏{‏الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ‏(‏19‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين يصدون عن سبيل الله‏}‏ قد تقدم تفسيرها في ‏[‏الأعراف‏:‏ 45‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهم بالآخرة هم كافرون‏}‏ قال الزجاج‏:‏ ذُكرت «هم» ثانية على جهة التوكيد لشأنهم في الكفر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 21‏]‏

‏{‏أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ ‏(‏20‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ‏(‏21‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ لم يُعجزوني أن آمر الأرض فتُخسف بهم‏.‏ ‏{‏وما كان لهم من دون الله من أولياء‏}‏ أي‏:‏ لا وليِّ لهم ممن يعبدون يمنعهم مني‏.‏ وقال ابن الأنباري‏:‏ لما كانت عادة العرب جارية بقولهم‏:‏ لا وزَرَ لك مني ولا نَفَق، يعنون بالوزر‏:‏ الجبل، والنفق‏:‏ السرَبَ، وكلاهما يلجأ إِليه الخائف، أعلم الله تعالى أن هؤلاء الكافرين لا يسبقونه هرباً، ولا يجدون ما يحجز بينهم وبين عذابه من جميع ما يستر من الأرض ويُلجأ إِليه‏.‏ قال‏:‏ وقوله‏:‏ «من أولياءَ» يقتضي محذوفاً، تلخيصه‏:‏ من أولياءَ يمنعونهم من عذاب الله، فحذف هذا لشهرته‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يضاعَف لهم العذاب‏}‏ يعني الرؤساء الصادِّين عن سبيل الله، وذلك لإِضلالهم أتباعهم واقتداءِ غيرهم بهم‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ «لم يكونوا معجزين في الأرض» أي‏:‏ في دار الدنيا، ولا لهم ولي يمنع من انتقام الله، ثم استأنف ‏{‏يضاعف لهم العذاب‏}‏ لعظم كفرهم بنبيه وبالبعث والنشور‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما كانوا يستطيعون السمع‏}‏ فيمن عني بهذا قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنهم الكفار‏.‏ ثم في معناه ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنهم لم يقدروا على استماع الخير، وإِبصار الحق، وفعل الطاعة، لأن الله تعالى حال بينهم وبين ذلك، هذا معنى قول ابن عباس، ومقاتل‏.‏

والثاني‏:‏ أن المعنى‏:‏ يضاعف لهم العذاب بما كانوا يستطيعون السمع ولا يسمعونه، وبما كانوا يبصرون حُجج الله ولا يعتبرون بها، فحذف الباء، كما تقول العرب‏:‏ لأجزينَّك ما عملت، وبما عملت، ذكره الفراء، وأنشد ابن الأنباري في الاحتجاج له‏:‏

نُغالي اللحمَ للأضياف نيِئا *** ونبذُله إِذا نضِجَ القُدورُ

أراد‏:‏ نغالي باللحم‏.‏

والثالث‏:‏ أنهم من شدة كفرهم وعداوتهم للنبي صلى الله عليه وسلم ما كانوا يستطيعون أن يتفهموا ما يقول، قاله الزجاج‏.‏

والقول الثاني‏:‏ أنهم الأصنام، فالمعنى‏:‏ ما كان للآلهة سمع ولا بصر، فلم تستطع لذلك السمع، ولم تكن تبصر‏.‏ فعلى هذا، يرجع قوله‏:‏ «ما كانوا» إِلى أوليائهم، وهي الأصنام، وهذا المعنى منقول عن ابن عباس أيضاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏22- 24‏]‏

‏{‏لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ ‏(‏22‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏23‏)‏ مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ‏(‏24‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا جرم‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يريد‏:‏ حقاً إِنهم الأخسرون‏.‏ وقال الفراء‏:‏ «لا جرم» كلمة كانت في الأصل بمنزلة لا بد ولا محالة، فجرت على ذلك، وكثر استعمالهم إِياها حتى صارت بمنزلة «حقا»، ألا ترى أن العرب تقول‏:‏ لا جرم لآتينَّك، لا جرم لقد أحسنت، وأصلها من جرمتُ، أي‏:‏ كسبت الذنب‏.‏ قال الزجاج‏:‏ ومعنى «لا جرم»‏:‏ «لا» نفي لما ظنوا أنه ينفعهم، كأن المعنى‏:‏ لا ينفعهم ذلك جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون، أي‏:‏ كسب لهم ذلك الفعلُ الخسرانَ‏.‏ وذكر ابن الأنباري أن «لا» رد على أهل الكفر فيما قدَّروه من اندفاع الشر عنهم في الآخرة، والمعنى‏:‏ لا يندفع عنهم عذابي، ولا يجدون ولياً يصرف عنهم نقمتي، ثم ابتدأ مستأنفاً «جرم»، قال‏:‏ وفيها قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها بمعنى‏:‏ كسب كفرهم وما قدَّروا من الباطل وقوعَ العذاب بهم‏.‏ ف «جرم» فعل ماض، معناه‏:‏ كسب، وفاعله مُضمر فيه من ذكر الكفر وتقرير الباطل‏.‏

والثاني‏:‏ أن معنى جرم‏:‏ أحقَّ وصحَّحَ، وهو فعل ماض، وفاعله مضمر فيه، والمعنى‏:‏ أحقَّ كفرُهم وقوعَ العذاب والخسران بهم، قال الشاعر‏:‏

ولقد طَعَنْتَ أبا عُيَيْنَةَ طعنةً *** جرمت فزارة بعدها أن يَغْضَبُوا

أراد‏:‏ حقت الطعنةُ فزارة بالغضب‏.‏ ومن العرب من يغيِّرُ لفظ «جرم» مع «لا» خاصة، فيقول بعضهم‏:‏ «لا جُرْم»، ويقول آخرون‏:‏ «لا جَرْ» باسقاط الميم، ويقال‏:‏ «لاذا جرم» و«لاذا جر» بغير ميم، ولا إِن ذا جرم‏}‏ و«لا عن ذا جرم»، ومعنى اللغات كلها‏:‏ حقاً‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأخبتوا إِلى ربهم‏}‏ فيه سبعة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ خافوا ربهم، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أنابوا إلى ربهم، رواه العوفي عن ابن عباس‏.‏

والثالث‏:‏ ثابوا إِلى ربهم، قاله قتادة‏.‏

والرابع‏:‏ اطمأنوا، قاله مجاهد‏.‏

والخامس‏:‏ أخلصوا، قاله مقاتل‏.‏

والسادس‏:‏ تخشَّعوا لربهم، قاله الفراء‏.‏

والسابع‏:‏ تواضعوا لربهم، قاله ابن قتيبة‏.‏

فإن قيل‏:‏ لم أوثرت «إِلى» على اللام في قوله «وأخبتوا إِلى ربهم»، والعادة جارية بأن يقال‏:‏ أخبتوا لربهم‏؟‏

فالجواب‏:‏ أن المعنى‏:‏ وَجَّهوا خوفَهم وخشوعهم وإِخلاصهم إِلى ربهم، واطمأنوا إِلى ربهم‏.‏ قال الفراء‏:‏ وربما جعلت العرب «إِلى» في موضع اللام، كقوله‏:‏ ‏{‏بأن ربك أوحى لها‏}‏ ‏[‏الزلزال‏:‏ 5‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏الذي هدانا لهذا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 43‏]‏‏.‏ وقد يجوز في العربية‏:‏ فلان يخبت إِلى الله، يريد‏:‏ يفعل ذلك موجهَه إِلى الله‏.‏ قال بعض المفسرين‏:‏ هذه الآية نازلة في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما قبلها نازل في المشركين‏.‏ ثم ضرب للفريقين مثلاً، فقال‏:‏ ‏{‏مثل الفريقين كالأعمى والأصم‏}‏ قال مجاهد‏:‏ الفريقان‏:‏ المؤمن والكافر‏.‏ فأما الأعمى والأصم فهو الكافر، وأما البصير والسميع فهو المؤمن‏.‏ قال قتادة‏:‏ الكافر عَمِيَ عن الحق وصُمَّ عنه، والمؤمن أبصرَ الحق وسمعَه ثم انتفع به‏.‏

وقال أبو عبيدة‏:‏ في الكلام ضمير، تقديره‏:‏ مثل الفريقين كمثل الأعمى‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ مثل الفريقين المسلِمَين كالبصير والسميع، ومثل فريق الكافرين كالأعمى والأصم، لأنهم في عداوتهم وتركهم للفهم بمنزلة من لايسمع ولا يبصر‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هل يستويان مثلاً‏}‏ أي‏:‏ هل يستويان في المشابهة‏؟‏

والمعنى‏:‏ كما لا يستويان عندكم، كذلك لا يستوي المؤمن والكافر عند الله‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ «هل» هاهنا بمعنى الإِيجاب، لا بمعنى الاستفهام، والمعنى‏:‏ لا يستويان‏.‏ قال الفراء‏:‏ وإِنما لم يقل‏:‏ «يستوون» لأن الأعمى والأصم من صفةِ واحدٍ، والسميع والبصير من صفةِ واحدٍ، كقول القائل‏:‏ مررت بالعاقل واللبيب، وهو يعني واحداً، قال الشاعر‏:‏

وما أدْرِي إِذا يمَّمْتُ أرضًا *** أريدُ الخيْرَ أيّهما يليني

فقال‏:‏ أيهما‏.‏ وإِنما ذكر الخير وحده، لأن المعنى يُعرف، إِذ المبتغي للخير متَّقٍ للشر‏.‏ وقال ابن الأنباري‏:‏ الأعمى والأصم صفتان لكافر، والسميع والبصير صفتان لمؤمن، فرُدَّ الفعلُ إِلى الموصوفين بالأوصاف الأربعة، كما تقول‏:‏ العاقل والعالم، والظالم والجاهل، حضرا مجلسي، فتثنِّي الخبر بعد ذكرك أربعة، لأن الموصوف بالعلم هو الموصوف بالعقل، وكذلك المنعوت بالجهل هو المنعوت بالظلم، فلما كان المنعوتان اثنين، رجع الخبر إِليهما، ولم يُلتفت إِلى تفريق الأوصاف، ألا ترى أنه يسوغ أن تقول‏:‏ الأديب واللبيب والكريم والجميل قصدني، فتوحِّد الفعل بعد أوصاف لعلة أن الموصوف بهن واحد، ولا يمتنع عطف النعوت على النعوت بحروف العطف، والموصوفُ واحد، فقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏التائبون العابدون‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 112‏]‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر‏}‏ فلم يقتض دخولُ الواو وقوعَ خلاف بين الآمرين والناهين، وقد قيل‏:‏ الآمر بالمعروف، ناهٍ عن المنكر في حال أمره، وكان دخول الواو دلالة على الآمر بالمعروف، لأن الأمر بالمعروف لا ينفرد دون النهي عن المنكر، كما ينفرد الحامدون بالحمد دون السائحين، والسائحون بالسياحة دون الحامدين، ويدل أيضاً على أن العرب تنسق النعت على النعت والمنعوت واحد، كقول الشاعر يخاطب سعيد بن عمرو بن عثمان بن عفان‏:‏

يَظُنُّ سعيدٌ وابنُ عمروٍ بأننَّي *** إِذا سامَني ذلاً أكونُ به أرْضَى

فنسق ابن عمرو على سعيد، وهو سعيد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏25- 29‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ ‏(‏25‏)‏ أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ ‏(‏26‏)‏ فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ ‏(‏27‏)‏ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآَتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ ‏(‏28‏)‏ وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ ‏(‏29‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد ارسلنا نوحاً إِلى قومه أني‏}‏ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، والكسائي «أني» بفتح الألف، والتقدير‏:‏ أرسلناه بأني، وكأن الوجه بأنه لهم نذير، ولكنه على الرجوع من الإِخبار عن الغائب إِلى خطاب نوح قومه‏.‏ وقرأ نافع، وعاصم، وابن عامر، وحمزة «إِني» بكسر الألف، فحملوه على القول المضمر، والتقدير‏:‏ فقال لهم‏:‏ إِني لكم نذير‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما نراك إِلا بشراً مثلنا‏}‏ أي‏:‏ إِنساناً مثلنا، لا فضل لك علينا‏.‏ فأما الأراذل، فقال ابن عباس‏:‏ هم السَّفَلة‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ هم جمع «أرذل»، يقال‏:‏ رجل رَذْل، وقد رَذُل رذالة ورُذُولة‏.‏ ومعنى الأراذل‏:‏ الشرار‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بادي الرأي‏}‏ قرأ الأكثرون «بادِيَ» بغير همز‏.‏ وقرأ أبو عمرو بالهمز بعد الدال‏.‏ وكلهم همز «الرأي» غير أبي عمرو‏.‏ وللعلماء في معنى «بادي» إذا لم يُهمز ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أن المعنى‏:‏ ما نرى أتباعك إِلا سفلتنا وأرذالنا في بادي الرأي لكل ناظر، يعنون أن ما وصفناهم به من النقص لا يخفى على أحد فيخالفنا، هذا مذهب مقاتل في آخرين‏.‏

والثاني‏:‏ أن المعنى أن هؤلاء القوم اتَّبعوك في ظاهر ما يُرى منهم، وطويَّتُهم على خلافك‏.‏

والثالث‏:‏ أن المعنى‏:‏ اتبعوك في ظاهر رأيهم، ولم يتدبروا ما قلتَ، ولو رجعوا إِلى التفكر لم يتبعوك، ذكر هذين القولين الزجاج‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ وهذه الثلاثة الأقوال على قراءة من لم يهمز، لأنه مِن بدا، يبدو‏:‏ إِذا ظهر‏.‏ فأما من همز «بادئ» فمعناه‏:‏ ابتداء الرأي، أي‏:‏ اتَّبعوك أول ما ابتدؤوا ينظرون، ولو فكروا لم يعدلوا عن موافقتنا في تكذيبك‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما نرى لكم علينا من فضل‏}‏ فيه ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ من فضل في الخلق، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ في الملك والمال ونحو ذلك، قاله مقاتل‏.‏

والثالث‏:‏ ما فُضِّلتم باتِّباعكم نوحاً، ومخالفتكم لنا بفضيلة نتبعكم طلبا لها، ذكره أبو سليمان الدمشقي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بل نظنكم كاذبين‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ نتيقنكم، قاله الكلبي‏.‏

والثاني‏:‏ نحسبكم، قاله مقاتل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أرأيتم إِن كنت على بينة من ربي‏}‏ أي‏:‏ على يقين وبصيرة‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ وقوله‏:‏ «إِن كنت» شرط لا يوجب شكّاً يلحقه، لكن الشك يلحق المخاطَبين من أهل الزيغ، فتقديره‏:‏ إِن كنتُ على بينة من ربي عندكم‏.‏ ‏{‏وآتاني رحمة من عنده‏}‏ فيها قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنها النبوَّة، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ الهداية، قاله مقاتل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فعُمِّيت عليكم‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم‏:‏ «فَعَمِيَتْ» بتخفيف الميم وفتح العين‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ والمعنى‏:‏ عميتم عنها، يقال‏:‏ عمي عليَّ هذا الأمر‏:‏ إِذا لم أفهمه، وعميت عنه بمعنى‏.‏ قال الفراء‏:‏ وهذا مما حوَّلت العرب الفعل إِليه، وهو في الأصل لغيره، كقولهم‏:‏ دخل الخاتم في يدي، والخف في رجلي، وإِنما الإِصبع تدخل في الخاتم، والرجل في الخف، واستجازوا ذلك إِذ كان المعنى معروفاً‏.‏

وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم‏:‏ «فعُمِّيَتْ» بضم العين وتشديد الميم‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ ومعنى ذلك‏:‏ فعمّاها الله عليكم إِذ كنتم ممن حُكم عليه بالشقاء‏.‏ وكذلك قرأ أُبَيّ بن كعب، والأعمش‏:‏ «فعمّاها عليكم»

وفي المشار إليها قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ البيِّنة‏.‏

والثاني‏:‏ الرحمة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أنلزمكموها‏}‏ أي‏:‏ أنُلزمكم قبولها‏؟‏ وهذا استفهام معناه الإِنكار، يقول‏:‏ لانقدر أن نُلزمكم من ذات أنفسنا‏.‏ قال قتادة‏:‏ والله لو استطاع نبي الله صلى الله عليه وسلم لألزمها قومه، ولكن لم يملك ذلك‏.‏ وقيل‏:‏ كان مراد نوح عليه السلام ردَّ قولهم‏:‏ ‏{‏وما نرى لكم علينا من فضل‏}‏ فبيَّن فضله وفضل مَن آمن به بأنه على بيِّنة من ربه، وقد آتاه رحمةً من عنده، وسُلب المكذِّبون ذلك‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا أسألكم عليه‏}‏ أي‏:‏ على نصحي ودعائي إياكم ‏{‏مالاً‏}‏ فتتهموني‏.‏ وقال ابن الأنباري‏:‏ لما كانت الرحمة بمعنى الهدى والإِيمان، جاز تذكيرها‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما أنا بطارد الذين آمنوا‏}‏ قال ابن جريج‏:‏ سألوه طردهم أنفة منهم، فقال‏:‏ لا يجوز لي طردهم، إِذ كانوا يلقون الله فيجزيهم بايمانهم، ويأخذ لهم ممن ظلمهم وصغَّر شؤونهم‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏ولكني أراكم قوما تجهلون‏}‏ قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ تجهلون أن هذا الأمر من الله تعالى، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ تجهلون لأمركم إِياي بطرد المؤمنين، قاله أبو سليمان‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏30- 34‏]‏

‏{‏وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ‏(‏30‏)‏ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ ‏(‏31‏)‏ قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ‏(‏32‏)‏ قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ‏(‏33‏)‏ وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ‏(‏34‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويا قوم من ينصرني‏}‏ أي‏:‏ من يمنعني من عذاب الله إِن طردتهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا أقول لكم عندي خزائن الله‏}‏ قال ابن الأنباري‏:‏ أراد بالخزائن‏:‏ عِلمَ الغيب المطوي عن الخلق، لأنهم قالوا له‏:‏ إنما اتَّبعك هؤلاء في الظاهر وليسوا معك، فقال لهم‏:‏ ليس عندي خزائن غيوب الله فأعلم ما تنطوي عليه الضمائر‏.‏ وإِنما قيل للغيوب‏:‏ خزائن، لغموضها عن الناس واستتارها عنهم‏.‏ قال سفيان بن عيينة‏:‏ إِنما آيات القرآن خزائن، فإذا دخلتَ خزانةً فاجتهد أن لا تخرج منها حتى تعرف ما فيها‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا أعلم الغيب‏}‏ قيل‏:‏ إِنما قال لهم هذا، لأن أرضهم أجدبت، فسألوه‏:‏ متى يجيء المطر‏؟‏ وقيل‏:‏ بل سألوه‏:‏ متى يجيء العذاب‏؟‏ فقال‏:‏ ولا أعلم الغيب‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ولا أقول إِني ملَك‏}‏ جواب لقولهم‏:‏ ‏{‏ما نراك إِلا بشراً مثلَنا‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 27‏]‏‏.‏ ‏{‏ولا أقول للذين تزدري أعينكم‏}‏ أي‏:‏ تحتقر وتستصغر المؤمنين‏.‏ قال الزجاج‏:‏ «تزدري» تستقل وتستخِس، يقال‏:‏ زريت على الرجل‏:‏ إِذا عبت عليه وخسست فعله، وأزريت به‏:‏ إِذا قصرت به‏.‏ وأصل تزدري‏:‏ تزتري، إِلا أن هذه التاء تبدل بعد الزاي دالاً، لأن التاء من حروف الهمس، وحروف الهمس خفية، فالتاء بعد الزاي تخفى، فأبدلت منها الدال لجهرها‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لن يؤتيهم الله خيراً‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ إِيمانا‏.‏ ومعنى الكلام‏:‏ ليس لي أن أطَّلِع على ما في نفوسهم فأقطع عليهم بشيء، وليس لاحتقاركم إِياهم يبطل أجرهم‏.‏ ‏{‏إِني إِذاً لمن الظالمين‏}‏ إِن قلت هذا الذي تقدم ذكره، وقيل إِن طردتهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قد جادلتنا‏}‏ قال الزجاج‏:‏ الجدال‏:‏ هو المبالغة في الخصومة والمناظرة، وهو مأخوذ من الجَدْل، وهو شدة الفتل، ويقال للصقر‏:‏ أجدل، لأنه من أشد الطير‏.‏ ويُقرأ ‏{‏فأكثرت جَدْلنا‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فائتنا بما تعدنا‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يعنون العذاب‏.‏ ‏{‏إِن كنت من الصادقين‏}‏ أنه يأتينا‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِن أردت أن أنصح لكم‏}‏ أي‏:‏ أنصحكم‏.‏ وفي هذه الآية شرطان، فجواب الأول النصح، وجواب الثاني النفع‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِن كان الله يريد أن يُغويكم‏}‏ فيه ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ يُضلكم، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ يُهلككم، حكاه ابن الأنباري‏:‏ وقال‏:‏ هو قول مرغوب عنه‏.‏

والثالث‏:‏ يضلكم ويهلككم، قاله الزجاج‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هو ربكم‏}‏ أي‏:‏ هو أولى بكم، يتصرف في ملكه كما يشاء ‏{‏وإِليه تُرجعون‏}‏ بعد الموت‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏35‏]‏

‏{‏أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ ‏(‏35‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أم يقولون‏}‏ قال الزجاج‏:‏ المعنى‏:‏ أيقولون‏:‏ ‏{‏افتراه‏}‏‏؟‏ قال ابن قتيبة‏:‏ الافتراء‏:‏ الاختلاق‏.‏ ‏{‏فعليَّ إِجرامي‏}‏ أي‏:‏ جرم ذلك الاختلاق إِن كنتُ فعلت‏.‏ ‏{‏وأنا بريء مما تُجرمون‏}‏ في التكذيب‏.‏ وقرأ أبو المتوكل، وابن السميفع‏:‏ «فعليَّ أجرامي» بفتح الهمزة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏36‏]‏

‏{‏وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آَمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ‏(‏36‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأوحي إِلى نوح أَنه لن يؤمن من قومك إِلا من قد آمن‏}‏ قال المفسرون‏:‏ لما أوحي إِليه هذا، استجاز الدعاء عليهم، فقال‏:‏ ‏{‏لا تذرْ على الأرض من الكافرين دياراً‏}‏ ‏[‏نوح 26‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا تبتئس‏}‏ قال ابن عباس، ومجاهد، لا تحزن‏.‏ وقال الفراء، والزجاج‏:‏ لا تستكن ولا تحزن‏.‏ قال أبو صالح عن ابن عباس‏:‏ فلا تحزن إِذا نزل بهم الغرق ‏{‏بما كانوا يفعلون‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏37- 38‏]‏

‏{‏وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ ‏(‏37‏)‏ وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ ‏(‏38‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واصنع الفلك‏}‏ أي‏:‏ واعمل السفينة‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏بأعيننا‏}‏ ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ بمرأىً منا، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ بحفظنا، قاله الربيع‏.‏

والثالث‏:‏ بعلمنا، قاله مقاتل‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ إِنما جمع على مذهب العرب في إِيقاعها الجمع على الواحد، تقول‏:‏ خرجنا إِلى البصرة في السفن، وإِنما جمع، لأن من عادة الملك أن يقول‏:‏ أمرنا ونهينا‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏ووحينا‏}‏ قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ وأمرنا لك أن تصنعها‏.‏

والثاني‏:‏ وبتعليمنا إِياك كيف تصنعها‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولاتخاطبني في الذين ظلموا‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ لاتسألني الصفح عنهم‏.‏

والثاني‏:‏ لاتخاطبني في إِمهالهم‏.‏

وإِنما نهي عن الخطاب في ذلك صيانة له عن سؤال لايجاب فيه‏.‏

الإِشارة إِلى كيفية عمل السفينة

روى الضحاك عن ابن عباس‏:‏ قال كان نوح يُضرب ثم يُلفُّ في لِبْدٍ فيُلقى في بيته، يُرَوْن أنه قد مات، ثم يخرج فيدعوهم‏.‏ حتى إِذا يئس من إِيمان قومه، جاءه رجل ومعه ابنه وهو يتوكأ على عصاً، فقال‏:‏ يا بني، انظر هذا الشيخ لايغررك، قال‏:‏ ياأبت أمكني من العصا، فأخذها فضربه ضربةً شجه مُوْضِحَةً، وسالت الدماء على وجهه، فقال رب قد ترى مايفعل بي عبادك، فان يكن لك فيهم حاجة فاهدهم، وإِلا فصبِّرني إِلى أن تحكم، فأوحى الله إِليه ‏{‏أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن‏}‏ إِلى قوله‏:‏ ‏{‏واصنع الفلك‏}‏، قال‏:‏ يارب، وما الفلك‏؟‏ قال‏:‏ بيت من خشب يجري على وجه الماء أُنجّي فيه أهل طاعتي، وأُغْرِق أهل معصيتي، قال‏:‏ يارب، وأين الماء‏؟‏ قال‏:‏ إِني على ما أشاء قدير، قال‏:‏ يارب، وأين الخشب‏؟‏ قال‏:‏ اغرس الشجر، فغرس الساج عشرين سنة، وكفّ عن دعائهم، وكفُّوا عنه، إِلا أنهم يستهزئون به، فلما أدرك الشجر، أمره ربه، فقطعه وجفَّفَه ولفَّقَه، فقال‏:‏ يارب، كيف أتخذ هذا البيت‏؟‏ قال‏:‏ أجعله على ثلاث صور، رأسه كرأس الطاووس، وجؤجؤه كجؤجؤ الطائر، وذنبه كذنب الديك، واجعلها مطبقة، وبعث الله إِليه جبريل يعلمه، وأوحى الله إِليه أن عجِّل عمل السفينة فقد اشتد غضبي على مَنْ عصاني، فاستأجر نجارين يعملون معه، وسام، وحام، ويافث، معه ينحتون السفينة، فجعل طولها ستمائة ذراع، وعرضها ثلاثمائة وثلاثين ذراعاً، وعلوها ثلاثاً وثلاثين، وفجَّرَ الله له عين القار تغلي غلياناً حتى طلاها‏.‏

وعن ابن عباس قال‏:‏ جعل لها ثلاث بطون، فحمل في البطن الأول الوحوش والسباع والهوام، وفي الأوسط الدواب والأنعام، وركب هو ومن معه البطن الأعلى‏.‏

وروي عن الحسن أنه قال‏:‏ كانت سفينة نوح طولها ألف ذراع، ومائتا ذراع، وعرضها ستمائة ذراع‏.‏

وقال قتادة‏:‏ كانت فيما ذُكر لنا طولها ثلاثمائة ذراع، وعرضها خمسمائة ذراع، وطولها في السماء ثلاثون ذراعاً‏.‏

وقال ابن جريج‏:‏ كان طولها ثلاثمائة ذراع، وعرضها خمسين ومائة ذراع، وطولها في السماء ثلاثون ذراع، وكان في أعلاها الطير، وفي وسطها الناس، وفي أسفلها السباع‏.‏

وزعم مقاتل أنه عمل السفينة في أربعمائة سنة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكلمَّا مر عليه ملأ من قومه سخروا منه‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنهم رأوه يبني السفينة وما رأوا سفينة قط، فكانوا يسخرون ويقولون‏:‏ صرت بعد النبوَّة نجاراً‏؟‏ وهذا قول ابن إِسحاق‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم قالوا له‏:‏ ما تصنع‏؟‏ فقال‏:‏ أبني بيتا يمشي على الماء، فسخروا من قوله، وهذا قول مقاتل‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏إِن تسخروا منا فانا نسخر منكم‏}‏ خمسة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ إِن تسخروا من قولنا فانا نسخر من غفلتكم‏.‏

والثاني‏:‏ إِن تسخروا من فعلنا عند بناء السفينة، فانا نسخر منكم عند الغرق، ذكره المفسرون‏.‏

والثالث‏:‏ إِن تسخروا منا في الدنيا، فانا نسخر منكم في الآخرة، قاله ابن جرير‏.‏

والرابع‏:‏ إِن تستجهلونا، فانا نستجهلكم، قاله الزجاج‏.‏

والخامس‏:‏ إِن تسخروا منا، فانا نستنصر الله عليكم، فسمى هذا سخرية، ليتفق اللفظان كما بينا في قوله‏:‏ ‏{‏الله يستهزئ بهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 15‏]‏، هذا قول ابن الأنباري‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ لم يكن في الأرض قبل الطوفان نهر ولا بحر، فلذلك سخروا منه، وإِنما مياه البحار بقية الطوفان‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏39‏]‏

‏{‏فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ ‏(‏39‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فسوف تعلمون‏}‏ هذا وعيد، ومعناه‏:‏ فسوف تعلمون من هو أحق بالسخرية، ومن هو أحمد عاقبة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏من يأتيه عذاب يخزيه‏}‏ أي‏:‏ يُذلُّه، وهو الغرق‏.‏ ‏{‏ويحل عليه‏}‏ أي‏:‏ ويجب عليه ‏{‏عذاب مقيم‏}‏ في الآخرة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏40‏]‏

‏{‏حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آَمَنَ وَمَا آَمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ ‏(‏40‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حتى إِذا جاء أمرنا‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ جاء أمرنا بعذابهم وإِهلاكهم‏.‏

والثاني‏:‏ جاء عذابنا وهو الماء، ابتدأ بجنبات الأرض فدار حولها كالإِكليل، وجعل المطر ينزل من السماء كأفواه القرب، فجعلت الوحوش يطلبن وسط الأرض هربا من الماء حتى اجتمعن عند السفينة، فحينئذ حمل فيها من كل زوجين اثنين‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وفار التَنُّورُ‏}‏ الفور‏:‏ الغليان؛ والفوَّارة‏:‏ ما يفور من القِدْر، قاله ابن فارس‏.‏

قال المصنف‏:‏ وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي عن ابن دريد قال‏:‏ التنور اسم فارسي معرَّب لا تعرف له العرب اسماً غير هذا، فلذلك جاء في التنزيل، لأنهم خوطبوا بما عرفوا‏.‏

وروي عن ابن عباس أنه قال‏:‏ التنور، بكل لسان عربي وعجمي‏.‏

وفي المراد بهذا التنور ستة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنه اسم لوجه الأرض، رواه عكرمة عن علي عليه السلام‏.‏ وروى الضحاك عن ابن عباس‏:‏ التنور‏:‏ وجه الأرض، قال‏:‏ قيل له‏:‏ إِذا رأيت الماءَ قد علا وجهَ الأرض، فاركب أنت وأصحابك، وهذا قول عكرمة، والزهري‏.‏

والثاني‏:‏ أنه تنوير الصبح، رواه أبو جحيفة عن علي رضي الله عنه‏.‏ وقال ابن قتيبه‏:‏ التنوير عند الصلاة‏.‏

والثالث‏:‏ أنه طلوع الفجر، روي عن علي أيضا، قال‏:‏ «وفار التنور» طلع الفجر‏.‏

والرابع‏:‏ أنه طلوع الشمس، وهو منقول عن علي أيضا‏.‏

والخامس‏:‏ أنه تنُّور أهله، روى العوفي عن ابن عباس قال‏:‏ إِذا رأيت تنُّور أهلك يخرج منه الماء، فانه هلاك قومك‏.‏ وروى أبو صالح عن ابن عباس‏:‏ أنه تنُّور آدم عليه السلام، وهبه الله لنوح، وقيل له‏:‏ إِذا فار الماء منه، فاحمل ماأُمرتَ به‏.‏ وقال الحسن‏:‏ كان تنوراً من حجارة، وهذا قول مجاهد، والفراء، ومقاتل‏.‏

والسادس‏:‏ أنه أعلى الأرض وأشرفها‏.‏

قال ابن الأنباري‏:‏ شُبهت أعالي الأرض وأماكنها المرتفعة لعلوها، بالتنانير‏.‏ واختلفوا في المكان الذي فار منه التنور على ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنه فار من مسجد الكوفة، رواه حبة العربي عن علي عليه السلام‏.‏ وقال زِرُّ بن حُبَيش‏:‏ فار التنور من زاوية مسجد الكوفة اليمنى‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ نبع الماء من التنور، فعلمت به امرأته فأخبرته، وكان ذلك بناحية الكوفة‏.‏ وكان الشعبي يحلف بالله ما كان التنور إِلا بناحية الكوفة‏.‏

والثاني‏:‏ أنه فار بالهند، رواه عكرمة عن ابن عباس‏.‏

والثالث‏:‏ أنه كان في أقصى دار نوح، وكانت بالشام في مكان يقال له‏:‏ عين وردة، قاله مقاتل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قلنا احمل فيها‏}‏ أي‏:‏ في السفينة ‏{‏من كل زوجين اثنين‏}‏‏.‏

وروى حفص عن عاصم‏:‏ «من كُلٍّ» بالتنوين‏.‏ قال أبو علي‏:‏ والمعنى‏:‏ من كل شيء، ومن كل زوج زوجين، فحذف المضاف‏.‏ وانتصاب «اثنين» على أنهما صفة لزوجين، وقد علم أن الزوجين اثنان، ولكنه توكيد‏.‏

قال مجاهد‏:‏ من كل صنف، ذكراً وأنثى‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ الزوج يكون واحداً، ويكون اثنين، وهو هاهنا واحد، ومعنى الآية‏:‏ احمل من كل ذكر وأنثى اثنين‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ المعنى‏:‏ احمل زوجين اثنين من كل شئ، والزوج في كلام العرب يجوز أن يكون معه واحد، والاثنان يقال لهما‏:‏ زوجان، يقال‏:‏ عندي زوجان من الطير، إِنما يريد ذكراً وأنثى فقط‏.‏ وقال ابن الأنباري‏:‏ إِنما قال «اثنين» فثنَّى الزوج، لأنه قصد قصْد الذكر والأنثى من الحيوان، وتقديره‏:‏ من كل ذكر وأنثى‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأهلك‏}‏ أي‏:‏ وأحمل أهلك‏.‏ قال المفسرون‏:‏ أراد بأهله‏:‏ عياله وولده‏.‏

‏{‏إلا من سبق عليه القول‏}‏ أي‏:‏ سبق عليه القول من الله بالإِهلاك‏.‏ قال الضحاك‏:‏ وهم امرأته وابنه كنعان‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن آمن‏}‏ معناه‏:‏ واحمل من آمن‏.‏

‏{‏وما آمن معه إِلا قليل‏}‏ وفي عددهم ثمانية أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنهم كانوا ثمانين رجلاً معهم أهلوهم، رواه عكرمة عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أن نوحاً حمل معه ثمانين إِنساناً، وبنيه الثلاثة، وثلاث نسوة لبنيه، وامرأة نوح، رواه يوسف بن مهران عن ابن عباس‏.‏

والثالث‏:‏ كانوا ثمانين إِنساناً، قاله أبو صالح عن ابن عباس‏.‏ وقال مقاتل كانوا أربعين رجلاً وأربعين امرأة‏.‏

والرابع‏:‏ كانوا أربعين، ذكره ابن جريج عن ابن عباس‏.‏

والخامس‏:‏ كانوا ثلاثين رجلاً، رواه أبو نهيك عن ابن عباس‏.‏

والسادس‏:‏ كانوا ثمانية، قال الحكم بن عتيبة‏:‏ كان نوح وثلاثة بنيه وأربع كنائنه‏.‏ قال قتادة‏:‏ ذُكر لنا أنه لم ينج في السفينة إِلا نوح وامرأته وثلاثة بنين له، ونساؤهم، فجماعتهم ثمانية، وهذا قول القرظي، وابن جريج‏.‏

والسابع‏:‏ كانوا سبعة، نوح، وثلاث كنائن له وثلاثة بنين، قاله الأعمش‏.‏

والثامن‏:‏ كانوا عشرة سوى نسائهم، قاله ابن إِسحاق‏.‏ وروي عنه أنه قال‏:‏ الذين نَجَوْا مع نوح بنوه الثلاثة، ونساؤهم ثلاث، وستة ممن آمن به‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏41‏]‏

‏{‏وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏41‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقال‏}‏ يعني نوحاً للذين أمر بحملهم ‏{‏اركبوا‏}‏ السفينة‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ ركبوا فيها لعشر مضين من رجب، وخرجوا منها يوم عاشوراء‏.‏

وقال ابن جريج‏:‏ رفعت من عين وردة يوم الجمعة لعشر مضين من رجب، فأتت موضع البيت فطافت به أسبوعاً، وكان البيت قد رُفع في ذلك الوقت، ورست ببا قِرْدى على الجودي يوم عاشوراء‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ قرض الفأر حبال السفينة، فشكا نوح ذلك، فأوحى الله تعالى إِليه، فمسح ذنب الأسد، فخرج سنَّوْرانِ، وكان في السفينة عَذِرة، فشكا ذلك إِلى ربه، فأوحى الله تعالى إِليه، فمسح ذنب الفيل، فخرج خنزيران فأكلا ذلك‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بسم الله مجراها ومرساها‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبوبكر عن عاصم‏:‏ «مُجراها» بضم الميم‏.‏ وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم‏:‏ «مَجراها» بفتح الميم، وكسر الراء‏.‏ وكلهم قرؤوا بضم الميم من «مرساها»، إِلا أن ابن كثير، وأبا عمرو، وابن عامر، وحفصاً عن عاصم، كانوا يفتحون السين‏.‏ ونافع، وأبو بكر عن عاصم، كانا يقرآنها بين الكسر والتفخيم‏.‏ وكان حمزة، والكسائي، وخلف، يميلونها‏.‏ وليس في هؤلاء أحد جعلها نعتاً لله، وإِنما جعل الوصفين نعتاً لله تعالى، الحسن، وقتادة، وحُميد الأعرج، وإِسماعيل بن مجالد عن عاصم، فقرؤوا «مُجرِيها ومُرسِيها» بضم الميم، وبياءين صحيحتين، مثل مبديها ومنشيها‏.‏ وقرأ ابن مسعود‏:‏ «مجراها» بفتح الميم، وإِمالة الراء بعدها ألف، «ومرساها» برفع الميم، وإِمالة السين بعدها ألف‏.‏ وقرأ أبو رزين، وأبوالمتوكل‏:‏ «مجراها» بفتح الميم والراء، وبألف بعدها، ومرساها، برفع الميم وفتح السين، وبألف بعدها‏.‏ وقرأ أبو الجوزاء، وابن يعمر‏:‏ «مَجراها ومَرساها» بفتح الميم فيهما جميعاً، وفتح الراء والسين، وبألف بعدهما‏.‏

وقرأ يحيى بن وثاب بفتح الميمين، إِلا أنه أمال الراء والسين فيهما، وقرأ أبو عمران الجوني، وابن جبير، برفع الميم فيهما، وفتح الراء والسين، وبألف بعدهما جميعاً‏.‏ فمن قرأ بضم الميمين، جعله من أجرى وأرسى‏.‏ ومن فتحهما، جعله مصدراً من جرى الشيء يجري مَجرى، ورسى يرسي مَرسى‏.‏ قال الزجاج‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏بسم الله‏}‏ أي‏:‏ بالله، والمعنى‏:‏ أنه أمرهم أن يسمُّوا في وقت جريها ووقت استقرارها‏.‏

ومن قرأ بضم الميمين، فالمعنى‏:‏ بالله إِجراؤها، وبالله إِرساها‏.‏ ومن فتحهما، فالمعنى‏:‏ بالله يكون جريها، وبالله يقع إِرساؤها، أي‏:‏ إِقرارها‏.‏ وسمعت شيخنا أبا منصور اللغوي يقول‏:‏ من ضم الميم في «مُجراها» أراد‏:‏ أجراها اللهُ مجرىً، ومن فتحها، أراد‏:‏ جرت مَجرى‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ كان إِذا أراد أن تجري، قال‏:‏ بسم الله، فجرت‏.‏ وإذا أراد أن ترسي، قال‏:‏ بسم الله، فرست‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏42- 43‏]‏

‏{‏وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ ‏(‏42‏)‏ قَالَ سَآَوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ ‏(‏43‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهي تجري بهم في موج كالجبال‏}‏ شبهه بالجبال في عِظَمه وارتفاعه، ويقال‏:‏ إِن الماء أرتفع على أطول جبل في الأرض أربعين ذراعاً، ويروي خمس عشرة ذراعاً‏.‏ وذكر بعض المفسرين أنه ارتفع نحو السماء سبعين فرسخاً من الأرض‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ونادى نوح ابنه‏}‏ لا يختلفون أنه كان كافراً‏.‏ وفي اسمه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ كنعان، وهو قول الأكثرين‏.‏

والثاني‏:‏ اسمه يام، قاله أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال عبيد بن عمير، وابن إِسحاق‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكان في مَعْزِلٍ‏}‏ المعزل‏:‏ المكان المنقطع‏.‏ ومعنى العزل‏:‏ التنحية‏.‏ وفي معنى الكلام وجهان ذكرهما الزجاج‏.‏

أحدهما‏:‏ في معزل من السفينة‏.‏

والثاني‏:‏ في معزل من دين أبيه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يابني اركب معنا‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبوعمرو، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي «يابني اركب» مضافة، بكسر الياء‏.‏ وروى أبوبكر عن عاصم «يابنيَ» مفتوحة الياء ها هنا، وباقي القرآن مكسورة‏.‏

وروى حفص عنه بالفتح في كل القرآن «يابنيَّ» إِذا كان واحداً‏.‏ قال النحويون‏:‏ الأصل في «بُنيّ» ثلاث ياءات، ياء التصغير، وياء بعدها هي لام الفعل، وياء بعد لام الفعل هي ياء الإِضافة‏.‏ فمن قرأ «يابُني» أراد‏:‏ يابنيي، فحذف ياء الاضافة، وترك الكسرة تدل عليها، كما يقال‏:‏ يا غلام أقبل‏.‏ ومن فتح الياء، أبدل من كسرة لام الفعل فتحة، استثقالاً لاجتماع الياءات مع الكسرة، فانقلبت ياء الإِضافة ألفاً، ثم حذفت الألف كما تحذف الياء، فبقيت الفتحة على حالها‏.‏ وقيل‏:‏ إِن المعنى‏:‏ يا بني آمن واركب معنا‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سآوي‏}‏ أي‏:‏ سأصير وأرجع ‏{‏إِلى جبل يعصمني‏}‏ أي‏:‏ يمنعني ‏{‏من الماء‏}‏ أي‏:‏ من تغريق الماء‏.‏

‏{‏قال لاعاصم اليوم‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ لا مانع اليوم من أمر الله، قاله أبو صالح عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ لا معصوم، ومثله‏:‏ ماء دافق، أي مدفوق، وسرٌّ كاتم، وليلٌ نائم، قاله ابن قتيبة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلا من رحم‏}‏ قال الزجاج‏:‏ هذا استثناء ليس من الأول، والمعنى‏:‏ لكن من رحم الله فانه معصوم‏.‏ قال مقاتل‏:‏ إِلا من رحم فركب السفينة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وحال بينهما الموج‏}‏ في المكني عنها قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنهما ابن نوح والجبل الذي زعم أنه يعصمه، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال مجاهد‏.‏

والثاني‏:‏ نوح وابنه، قاله مقاتل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏44- 47‏]‏

‏{‏وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ‏(‏44‏)‏ وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ ‏(‏45‏)‏ قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ‏(‏46‏)‏ قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ‏(‏47‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقيل يا أرض ابلعي ماءك‏}‏ وقف قوم على ظاهر الآية، وقالوا‏:‏ إِنما ابتلعت مانبع منها، ولم تبتلع ماء السماء، فصار ذلك بحاراً وأنهاراً، وهو معنى قول ابن عباس‏.‏ وذهب آخرون إِلى أن المراد‏:‏ ابلعي ماءك الذي عليك، وهو ما نبع من الأرض ونزل من السماء، وذلك بعد أن غرق ما على وجه الأرض‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وياسماء أقلعي‏}‏ أي‏:‏ أمسكي عن إِنزال الماء‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ لما تقدم ذكر الماء، عُلم أن المعنى‏:‏ أقلعي عن إِنزال الماء‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وغيض الماء‏}‏ أي‏:‏ نقص‏.‏ قال الزجاج‏:‏ يقال‏:‏ غاض الماء يغيض‏:‏ إِذا غاب في الأرض‏.‏ ويجوز إِشمام الضم في الغين‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقضي الأمر‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ غرق مَنْ غرق، ونجا مَنْ نجا‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ قضي الأمر‏:‏ هلاك قوم نوح‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ «وقضي الأمر» أي‏:‏ فرغ منه‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ والمعنى‏:‏ أُحكمتْ هلكة قوم نوح، فلما دلت القصة على ما يبيِّن هلكتهم، أغنى عن نعت الأمر‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واستوت‏}‏ يعني السفينة ‏{‏على الجوديّ‏}‏ وهو اسم جبل‏.‏ وقرأ الأعمش، وابن أبي عبلة‏:‏ «على الجودي» بسكون الياء‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ وتشديد الياء في «الجوديّ» لأنها ياء النسبة، فهي كالياء في علوي، وهاشمي‏.‏ وقد خففها بعض القراء‏.‏ ومن العرب من يخفف ياء النسبة، فيسكنها في الرفع، والخفض، ويفتحها في النصب، فيقول‏:‏ قام زيد العلوي، ورأيت زيداً العلوي‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ درات السفينة بالبيت أربعين يوماً، ثم وجهها الله إِلى الجودي فاستقرت عليه‏.‏ واختلفوا أين هذا الجبل على ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنه بالموصل، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال الضحاك‏.‏

والثاني‏:‏ بالجزيرة، قاله مجاهد، وقتادة‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ هو بالجزيرة قريب من الموصل‏.‏

والثالث‏:‏ أنه بناحية آمِد، قاله الزجاج‏.‏

وفي علة استوائها عليه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه لم يغرق، لأن الجبال تشامخت يومئذ وتطاولت، وتواضع هو فلم يغرق، فأرست عليه، قاله مجاهد‏.‏

والثاني‏:‏ أنه لما قلَّ الماء أَرْسَتْ عليه، فكان استواؤها عليه دلالة على قلة الماء‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقيل بُعْدَاً للقوم الظالمين‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ بُعداً من رحمة الله للقوم الكافرين‏.‏

فان قيل‏:‏ ما ذنب من أُغرق من البهائم والأطفال‏؟‏ فالجواب‏:‏ أنَّ آجالهم حضرت، فأُميتوا بالغرق، قاله الضحاك، وابن جريج‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏رب إِنَّ ابني من أهلي‏}‏ إِنما قال نوح هذا، لأن الله تعالى وعده نجاة أهله، فقال‏:‏ ‏{‏وإِن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ أعدل العادلين‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ فأنت أحكم الحاكمين بالحق‏.‏ واختلفوا في هذا الذي سأل فيه نوح على قولين‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه ابن نوح لصلبه، قاله ابن عباس، وعكرمة، وسعيد بن جبير، ومجاهد، والضحاك، والجمهور‏.‏

والثاني‏:‏ أنه ولد على فراشه لغير رِشدة ولم يكن ابنه‏.‏ روى ابن الأنباري باسناده عن الحسن أنه قال‏:‏ لم يكن ابنَه، إِن امرأته فجرت‏.‏ وعن الشعبي قال‏:‏ لم يكن ابنه، إِن امرأته خانته، وعن مجاهد نحو ذلك‏.‏ وقال ابن جريج‏:‏ ناداه نوح وهو يحسب أنه ابنه، وكان وُلد على فراشه‏.‏ فعلى القول الأول، يكون في معنى قوله‏:‏ ‏{‏إِنه ليس من أهلك‏}‏ قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ ليس من أهل دينك‏.‏

والثاني‏:‏ ليس من أهلك الذين وعدتك نجاتهم‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ ما بغت امرأة نبي قط، وإِنما المعنى‏:‏ ليس من أهلك الذين وعدتك نجاتهم‏.‏ وعلى القول الآخر‏:‏ الكلام على ظاهره، والأول أصح، لموافقته ظاهر القرآن، ولاجتماع الأكثرين عليه، وهو أولى من رمي زوجة نبي بفاحشة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنه عملٌ غيرُ صالح‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة‏:‏ «إِنه عملٌ» رفع منون «غيرُ صالح» برفع الراء، وفيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه يرجع إِلى السؤال فيه، فالمعنى‏:‏ سؤلك إِياي فيه عمل غير صالح، قاله ابن عباس، وقتادة، وهذا ظاهر، لأنه قد تقدم السؤال فيه في قوله‏:‏ «رب إِن ابني من أهلي» فرجعت الكناية إِليه‏.‏

والثاني‏:‏ أنه يرجع إِلى المسؤول فيه‏.‏

وفي هذا المعنى قولان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه لغير رِشدة، قاله الحسن‏.‏

والثاني‏:‏ أن المعنى‏:‏ إِنه ذو عمل غير صالح، قاله الزجاج‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ من قال‏:‏ هو لغير رِشدة، قال‏:‏ المعنى‏:‏ إِن أصل أبنك الذي تظن أنه أبنك عملٌ غير صالح‏.‏ ومن قال‏:‏ إِنه ذو عمل غير صالح، قال‏:‏ حذف المضاف، وأقام العمل مقامه، كما تقول العرب‏:‏ عبد الله إِقبال وإِدبار، أي‏:‏ صاحب إِقبال وإِدبار‏.‏ وقرأ الكسائي‏:‏ «عَمِلَ» بكسر الميم وفتح اللام «غيرَ صالح» بفتح الراء، يشير إِلى أنه مشرك‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا تسألنِ ما ليس لك به علم‏}‏ قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر‏:‏ «فلا تسألنَّ» بفتح اللام، وتشديد النون، غير أن نافعاً، وابن عامر، كسرا النون، وفتحها ابن كثير، وحذفوا الياء في الوصل والوقف‏.‏ وقرأ عاصم، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي، بسكون اللام وتخفيف النون، غير أن أبا عمرو، وأبا جعفر، أثبتا الياء في الوصل، وحذفاها في الوقف، ووقف عليها يعقوب بالياء، والباقون يحذفونها في الحالين‏.‏ قال أبو علي‏:‏ من كسر النون، فقد عدَّى السؤال إِلى مفعولين،

أحدهما‏:‏ اسم المتكلم، والآخر‏:‏ الاسم الموصول، وحذفت النون المتصلة بياء المتكلم لاجتماع النونات‏.‏ وأما إِثبات الياء في الوصل فهو الأصل، وحذفها أخف، والكسرة تدل عليها، وتُعلِمُ أن المفعول مراد في المعنى‏.‏ ثم في معنى الكلام ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنه نسبته إِليه، وليس منه‏.‏

والثاني‏:‏ في إِدخاله إِياه في جملة أهله الذين وعده نجاتهم‏.‏

والثالث‏:‏ سؤاله في إِنجاء كافر من العذاب‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِني أعظك أن تكون من الجاهلين‏}‏ فيه ثلاثة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أن تكون من الجاهلين في سؤالك مَنْ ليس مِنْ حزبك‏.‏

والثاني‏:‏ من الجاهلين بوعدي، لأني وعدت بانجاء المؤمنين‏.‏

والثالث‏:‏ من الجاهلين بنسبك، لأنه ليس من أهلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏48‏]‏

‏{‏قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏48‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يانوح اهبط‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يريد‏:‏ من السفينة إِلى الأرض‏.‏ ‏{‏بسلام منا‏}‏ أي‏:‏ بسلامه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وبركات عليك‏}‏ قال المفسرون‏:‏ البركات عليه‏:‏ أنه صار أباً للبشر جميعاً، لأن جميع الخلق من نسله‏.‏ ‏{‏وعلى أُمم ممن معك‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يريد‏:‏ من ولدك‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ المعنى‏:‏ من ذراري من معك، والمراد‏:‏ المؤمنون من ذريته‏.‏ ثم ذكر الكفار، فقال‏:‏ ‏{‏وأُممٌ‏}‏ أي‏:‏ من الذرية أيضاً، والمعنى‏:‏ وفيمن نَصِفُ لك أُمم، وفيمن نقصُّ عليك أمره أُمم‏.‏ ‏{‏سنمتِّعهم‏}‏ أي‏:‏ في الدنيا ‏{‏ثم يمسهم منا عذاب أليم‏}‏ في الآخرة‏.‏ قال محمد بن كعب القرظي‏:‏ لم يبق مؤمن ولا مؤمنة في أصلاب الرجال وأرحام النساء يومئذ إِلى أن تقوم الساعة إِلا وقد دخل في ذلك السلام والبركات، ولم يبق كافر إِلا دخل في ذلك المتاع والعذاب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏49- 53‏]‏

‏{‏تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ ‏(‏49‏)‏ وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ ‏(‏50‏)‏ يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏51‏)‏ وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ ‏(‏52‏)‏ قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آَلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ‏(‏53‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تلك من أنباء الغيب‏}‏ في المشار إليه ب «تلك» قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ قصة نوح‏.‏

والثاني‏:‏ آيات القرآن، والمعنى‏:‏ تلك من أخبار ما غاب عنك وعن قومك‏.‏

فان قيل‏:‏ كيف قال هاهنا‏:‏ «تلك» وفي مكان آخر «ذلك»‏؟‏ فقد أجاب عنه ابن الأنباري، فقال‏:‏ «تلك» إِشارة إِلى آيات القرآن، و«ذلك» إِشارة إِلى الخبر والحديث، وكلاهما معروف في اللغة الفصيحة، يقول الرجل‏:‏ قد قدم فلان، فيقول سامعٌ قولَه‏:‏ قد فرحت به، وقد سررت بها، فاذا ذكّر، عنى القدوم، وإِذا أنَّث، ذهب إِلى القَدْمَة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏من قبل هذا‏}‏ يعني‏:‏ القرآن‏.‏ ‏{‏فاصبر‏}‏ كما صبر نوح على أذى قومه ‏{‏إِن العاقبة‏}‏ أي‏:‏ آخر الأمر بالظفر والتمكين ‏{‏للمتقين‏}‏ أي‏:‏ لك ولقومك كما كان لمؤمني قوم نوح‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِن أنتم إِلا مفترون‏}‏ أي‏:‏ ما أنتم إِلا كاذبون في إِشراككم مع الله الأوثان‏.‏ وما بعد هذا قد سبق تفسيره ‏[‏يونس‏:‏ 72‏]‏ إِلى قوله‏:‏ ‏{‏يرسل السماء عليكم مدراراً‏}‏ وهذا أيضاً قد سبق تفسيره في ‏[‏سورة الأنعام 61‏]‏‏.‏ والسبب في قوله لهم ذلك، أن الله تعالى حبس المطر عنهم ثلاث سنين، وأعقم أرحام نسائهم، فوعدهم إِحياء بلادهم وبسط الرزق لهم إِن آمنوا‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويزدكم قُوَّةً إِلى قُوَّتِكم‏}‏ فيه ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنه الولد وولد الولد، رواه أبو صالح عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ يزدكم شدة إِلى شدتكم، قاله مجاهد، وابن زيد‏.‏

والثالث‏:‏ خِصباً إِلى خصبكم، قاله الضحاك‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تتولَّوا مجرمين‏}‏ قال مقاتل‏:‏ لا تُعرضوا عن التوحيد مشركين‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما جئتنا ببينة‏}‏ أي‏:‏ بحجة واضحة‏.‏ ‏{‏وما نحن بتاركي آلهتنا‏}‏ يعنون الأصنام‏.‏ ‏{‏عن قولك‏}‏ أي‏:‏ بقولك، و«الباء» و«عن» يتعاقبان‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏54- 56‏]‏

‏{‏إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آَلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ‏(‏54‏)‏ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ ‏(‏55‏)‏ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏56‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِن نقول‏}‏ أي‏:‏ ما نقول في سبب مخالفتك إِيانا إِلا أن بعض آلهتنا أصابك بجنون لسبِّك إياها، فالذي تُظهر من عيبها لِما لحق عقلك من التغيير‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ يقال‏:‏ عراني كذا، واعتراني‏:‏ إِذا ألمَّ بي‏.‏ ومنه قيل لمن أتاك يطلب نائلك‏:‏ عارٍ، ومنه قول النابغة‏:‏

أَتَيْتُكَ عَارِيَاً خَلَقاً ثيابي *** على خَوْفٍ تُظَنُّ بِيَ الظُّنُونُ

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِني أشهد الله‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ إِلى آخر الآية‏.‏ حرك ياء «إِنيَ» نافع‏.‏ ومعنى الآية‏:‏ إِن كنتم تقولون‏:‏ إِن الآلهة عاقبتني لطعني عليها، فاني على يقين من عيبها والبراءةِ منها، وها أنا ذا أزيد في الطعن عليها، ‏{‏فكيدوني جميعاً‏}‏ أي‏:‏ احتالوا أنتم وأوثانكم في ضرِّي، ثم لاتمهلون‏.‏ قال الزجاج‏:‏ وهذا من أعظم آيات الرسل، أن يكون الرسول وحدهَ وأُمتُه متعاونة عليه، فيقول لهم‏:‏ كيدوني، فلا يستطيع أحد منهم ضرَّه، وكذلك قال نوح لقومه‏:‏ ‏{‏فأجمعوا أمركم وشركاءكم‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 71‏]‏‏.‏ وقال محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏{‏فإِن كان لكم كيد فكيدونِ‏}‏ ‏[‏المرسلات‏:‏ 39‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلا هو آخذٌ بناصيتها‏}‏ قال أبو عبيدة‏:‏ المعنى‏:‏ أنها في قبضته ومِلكه وسلطانه‏.‏

فان قيل‏:‏ لم خص الناصية‏؟‏ فالجواب‏:‏ أن الناصية هي شعر مقدَّم الرأس، فاذا أخذت بها من شخص، فقد ملكت سائر بدنه، وذلَّ لك‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِن ربي على صراط مستقيم‏}‏ قال مجاهد‏:‏ على الحق‏.‏ وقال غيره‏:‏ في الكلام إِضمار، تقديره‏:‏ إِن ربي يدل على صراط مستقيم‏.‏ فان قيل‏:‏ ما وجه المناسبة بين قوله‏:‏ ‏{‏إِلا هو آخذ بناصيتها‏}‏ وبين كونه على صراط مستقيم‏؟‏ فعنه جوابان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه لما أخبر أنه آخذ بنواصي الخلق، كان معناه‏:‏ أنهم لا يخرجون عن قبضته، فأخبر أنه على طريق لا يعدل عنه هارب، ولا يخفي عليه مستتر‏.‏

والثاني‏:‏ أن المعنى‏:‏ أنه وإِن كان قادراً عليهم، فهو لايظلمهم، ولايريد إِلا العدل، ذكرهما ابن الأنباري‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏57‏]‏

‏{‏فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ‏(‏57‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإِن تولَّوا‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه فعل ماضي، معناه‏:‏ فان أعرضوا‏.‏ فعلى هذا، في الآية إِضمار، تلخيصه‏:‏ فان أعرضوا فقل لهم‏:‏ قد أبلغتكم، هذا مذهب مقاتل في آخرين‏.‏

والثاني‏:‏ أنه خطاب للحاضرين، وتقديره‏:‏ فان تتولَّوا، فاستثقلوا الجمع بين تاءين متحركتين، فاقتُصر على إِحداهما، وأسقطت الأخرى، كما قال النابغة‏:‏

المرءُ يَهْوى أَنْ يَعْي *** شَ وطُوْلُ عَيْشٍ قدَ يَضُرُّهْ

تَفْنَى بَشَاَشُتُه ويَبْ *** قَى بَعْد حُلْوِ العَيْشِ مُرُّهْ

وتَصَرَّفُ الأيّامُ حت *** ى ما يَرَى شيئاً يَسُرُّهْ

أراد‏:‏ وتتصرف الأيام، فأسقط إِحدى التاءين، ذكره ابن الأنباري‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويستخلفُ ربي قوماً غيركم‏}‏ فيه وعيد لهم بالهلاك‏.‏ ‏{‏إِن ربي على كل شيء حفيظ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ حفيظ على أعمال العباد حتى يجازيَهم بها‏.‏

والثاني‏:‏ أن «على» بمعنى اللام، فالمعنى‏:‏ لكل شيء حافظ، فهو يحفظني من أن تنالوني بسوء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏58‏]‏

‏{‏وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ ‏(‏58‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولما جاء أمرنا‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ جاء عذابنا، قاله ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ جاء أمرنا بهلاكهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏نجينا هوداً والذين آمنوا معه برحمةٍ منَّا‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ نجيناهم من العذاب بنعمتنا‏.‏

والثاني‏:‏ نجيناهم بأن هديناهم إِلى الإِيمان، وعصمناهم من الكفر، روي القولان عن ابن عباس‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ونجيناهم من عذاب غليظ‏}‏ أي‏:‏ شديد، وهو ما استحقه قوم هود من عذاب الدنيا والآخرة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏59‏]‏

‏{‏وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ‏(‏59‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وتلك عاد‏}‏ يعني القبيلة‏.‏ ‏{‏وعصوا رسله‏}‏ لقائل أن يقول‏:‏ إِنما أُرسل إِليهم هود وحده، فكيف ذُكر بلفظ الجمع‏؟‏ فالجواب من ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أنه قد يذكر لفظ الجمع ويراد به الواحد، كقوله‏:‏ ‏{‏أم يحسدون الناس‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 54‏]‏ والمراد به النبي صلى الله عليه وسلم وحده‏.‏

والثاني‏:‏ أن من كذَّب رسولاً واحداً فقد كذَّب الكلَّ‏.‏

والثالث‏:‏ أن كل مرة ينذرهم فيها هي رسالة مجدَّدة وهو بها رسول‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واتَّبعوا‏}‏ أي‏:‏ واتبع الأتباع أمر الرؤساء‏.‏

والجبار‏:‏ الذي طال وفات اليد‏.‏ وللعلماء في الجبار أربعة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنه الذي يقتل على الغضب ويعاقب على الغضب، قاله الكلبي‏.‏

والثاني‏:‏ أنه الذي يجبر الناس على ما يريد، قاله الزجاج‏.‏

والثالث‏:‏ أنه المسلَّط‏.‏

والرابع‏:‏ أنه العظيم في نفسه، المتكبّر على العباد، ذكرهما ابن الأنباري‏.‏ والذي ذكرناه يجمع هذه الأقوال، وقد زدنا هذا شرحاً في ‏[‏المائدة‏:‏ 22‏]‏‏.‏

وأما العنيد‏:‏ فهو الذي لا يقبل الحق‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ العَنود، والعنيد، والعاند‏:‏ المعارض لك بالخلاف عليك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏60- 69‏]‏

‏{‏وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ ‏(‏60‏)‏ وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ ‏(‏61‏)‏ قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ ‏(‏62‏)‏ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآَتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ ‏(‏63‏)‏ وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آَيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ ‏(‏64‏)‏ فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ ‏(‏65‏)‏ فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ ‏(‏66‏)‏ وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ ‏(‏67‏)‏ كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ ‏(‏68‏)‏ وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ ‏(‏69‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأُتبعوا في هذه الدنيا لعنةً‏}‏ أي‏:‏ أُلحقوا لعنة تنصرف معهم‏.‏ ‏{‏ويوم القيامة‏}‏ أي‏:‏ وفي يوم القيامة لُعنوا أيضاً‏.‏ ‏{‏ألا إِن عاداً كفروا ربهم‏}‏ أي‏:‏ بربهم، فحذف الباء، وأنشدوا‏:‏

أَمَرتُكَ الخيرَ فَافْعَلْ مَا أُمِرْتَ بِهِ *** فقد تَركْتُكَ ذَا مَالٍ وَذَا نَشَبِ

قال الزجاج‏:‏ قوله‏:‏ «ألا» ابتداء وتنبيه، و«بُعدا» منصوب على معنى‏:‏ أبعدهم الله فبعدوا بعداً، والمعنى‏:‏ أبعدهم من رحمته‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هو أنشأكم من الأرض‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ خلقكم من آدم، وآدم خُلق من الأرض‏.‏

والثاني‏:‏ أنشأكم في الأرض‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏واستعمركم فيها‏}‏ ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أعمركم فيها، أي‏:‏ جعلكم ساكنيها مدة أعماركم، ومنه العمرى، وهذا قول مجاهد‏.‏

والثاني‏:‏ أطال أعماركم، وكانت أعمارهم من ألف سنة إِلى ثلاثمائة، قاله الضحاك‏.‏

والثالث‏:‏ جعلكم عُمَّارها، قاله أبو عبيدة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قد كنتَ فينا مرجُوّاً قبل هذا‏}‏ فيه ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنهم كانوا يرجونه للمملكة بعد ملكهم، لأنه كان ذا حسب وثروة، قاله كعب‏.‏

والثاني‏:‏ أنه كان يبغض أصنامهم ويعدل عن دينهم، وكانوا يرجون رجوعه إِلى دينهم، فلما أظهر إِنذارهم، انقطع رجاؤهم، منه وإِلى نحو هذا ذهب مقاتل‏.‏

والثالث‏:‏ أنهم كانوا يرجون خيره، فلما أنذرهم، زعموا أن رجاءهم لخيره قد انقطع، ذكره الماوردي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإِننا لفي شك‏}‏ إِن قال قائل‏:‏ لم قال هاهنا‏:‏ «وإِننا» وقال في ‏(‏إِبراهيم‏)‏‏:‏ «وإِنا»‏؟‏

فالجواب‏:‏ أنهما لغتان من لغات قريش السبع التي نزل القرآن عليها‏.‏ قال الفراء‏:‏ من قال‏:‏ «إِننا» أخرج الحرف على أصله، لأن كناية المتكلمين «نا» فاجتمعت ثلاث نونات، نونا «إِن» والنون المضمومة إِلى الألف، ومن قال‏:‏ «إِنا» استثقل الجمع بين ثلاث نونات، وأسقط الثالثة، وأبقى الأولتين؛ وكذلك يقال‏:‏ إِني وإٍنني، ولعلّي ولعلني، وليتي وليتني، قال الله في اللغة العليا‏:‏ ‏{‏لعلّي أبلغ الأسباب‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 36‏]‏، وقال الشاعر في اللغة الأخرى‏:‏

أريني جواداً مات هَزْلاً لعلَّني *** أرى ما تَرَيْنَ أو بخيلاً مخلَّدا

وقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏يا ليتني كنتُ معهم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 73‏]‏، وقال الشاعر‏:‏

كمُنيةِ جابرٍ إِذ قال ليتي *** أصادفُه وأُتلفُ بعضَ مالي

فأما المريب، فهو الموقع للريبة والتهمة‏.‏ والرحمة يراد بها هاهنا‏:‏ النبوَّة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فما تزيدونني غير تخسير‏}‏ التخسير‏:‏ النقصان‏.‏

وفي معني الكلام قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ فما تزيدونني غيرَ بَصَارَةٍ في خسارتكم، قاله ابن عباس‏.‏ وقال الفراء‏:‏ المعنى‏:‏ فما تزيدونني غير تخسيرٍ لكم، أي‏:‏ كلما اعتذرتم عندي بعذر فهو يزيدكم تخسيراً‏.‏ وقال ابن الأعرابي‏:‏ غير تخسير لكم، لا لي‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ المعنى‏:‏ فما تزيدونني بما قلتم إِلا نسبتي لكم إِلى الخسارة‏.‏

والقول الثاني‏:‏ فما تزيدونني غير الخسران إِن رجعتُ إِلى دينكم، وهذا معنى قول مقاتل‏.‏

فان قيل‏:‏ فظاهر هذا أنه كان خاسراً، فزادوه خساراً، فقد أسلفنا الجواب في قوله‏:‏

‏{‏لو خرجوا فيكم مازادوكم إِلا خبالاً‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 47‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هذه ناقةُ الله لكم آيةً‏}‏ قد شرحناها في سورة ‏[‏الأعراف‏:‏ 73‏]‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تمتعوا في داركم‏}‏ أي‏:‏ استمتعوا بحياتكم، وعبَّر عن الحياة بالتمتع، لأن الحيَّ يكون متمتِّعاً بالحواسِّ‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثلاثةَ أيام‏}‏ قال المفسرون‏:‏ لمَّا عُقرت الناقة صَعِدَ فصيلُها إِلى الجبل، ورغا ثلاث مرات، فقال صالح‏:‏ لكل رغوة أجل يوم، ألا إِن اليوم الأول تصبح وجوهُكم مُصْفَرَّةً، واليوم الثاني مُحْمَرَّةً، واليوم الثالث مُسْوَدَّةً؛ فلما أصبحوا في اليوم الأول، إِذا وجوههم مصفرة، فصاحوا وضجوا، وبَكَوْا، وعَرَفوا أنَّه العذاب، فلما أصبحوا في اليوم الثاني، إِذا وجوههم محمرة، فضجوا، وبكَوا، فلما أصبحوا في اليوم الثالث، إِذا وجوههم مسودة كأنما طليت بالقار، فصاحوا جميعاً‏:‏ ألا قد حضركم العذاب؛ فتكفَّنوا وألقَوْا أنفسهم بالأرض، لا يدرون من أين يأتيهم العذاب، فلما أصبحوا في اليوم الرابع، أتتهم صيحة من السماء فيها صوت كلِّ صاعقة، فتقطَّعتْ قلوبُهم في صدورهم‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ حفروا لأنفسهم قبوراً، فلما ارتفعت الشمس من اليوم الرابع، ولم يأتهم العذاب، ظنوا أن الله قد رحمهم، فخرجوا من قبورهم يدعو بعضهم بعضاً، إِذ نزل جبريل، فقام فوق المدينة فسدّ ضوءَ الشمس، فلما عاينوه، دخلوا قبورهم، فصاح بهم صيحة‏:‏ موتوا، عليكم لعنة الله، فخرجت أرواحهم، وتزلزلت بيوتهم فوقعت على قبورهم‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك وعدٌ‏}‏ أي‏:‏ العذاب ‏{‏غير مكذوب‏}‏ أي‏:‏ غير كذب‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن خِزْيِ يومِئِذٍ‏}‏ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر «يومِئِذٍ» بكسر الميم‏.‏ وقرأ الكسائي بفتحها مع الإِضافة‏.‏ قال مكي‏:‏ من كسر الميم، أعرب وخفض، لإِضافة الخزي إِلى اليوم، ولم يَبْنِهِ؛ ومن فتح، بنى اليوم على الفتح، لإِضافته إِلى غير متمكّن، وهو «إِذ» وقرأ ابن مسعود «ومن خزيٍ» بالتنوين، «يومَئذ» بفتح الميم‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ هذه الواو في قوله‏:‏ «ومن خزي» معطوفة على محذوف، تقديره‏:‏ نجيناهم من العذاب ومن خزي يومئذ‏.‏ قال‏:‏ ويجوز أن تكون دخلت لفعل مضمر، تأويله‏:‏ نجينا صالحاً والذين آمنوا معه برحمة منا، ونجيناهم من خِزْي يومئذ‏.‏ قال‏:‏ وإِنما قال‏:‏ «وأخذَ» لأن الصيحة محمولة على الصياح‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألا بعداً لثمود‏}‏ اختلفوا في صرف «ثمود» وترك إِجرائه في خمسة مواضع‏:‏ في ‏[‏هود‏:‏ 69‏]‏ ‏{‏ألا إِن ثموداً كفروا ربهم ألا بعداً لثمود‏}‏ وفي ‏[‏الفرقان‏:‏ 38‏]‏ ‏{‏وعاداً وثموداً وأصحابَ الرسِّ‏}‏ وفي ‏[‏العنكبوت‏:‏ 38‏]‏ ‏{‏وعاداً وثموداً وقد تبين لكم‏}‏ وفي ‏[‏النجم‏:‏ 51‏]‏ ‏{‏وثمودَ فما أبقي‏}‏ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ونافع، وابن عامر بالتنوين في أربعة مواضع منها، وتركوا ‏{‏ألا بعداً لثمود‏}‏ فلم يصرفوه‏.‏ وقرأ حمزة بترك صرف هذه الخمسة الأحرف، وصرفهنَّ الكسائي‏.‏ واختلف عن عاصم، فروى حسين الجعفي عن أبي بكر عنه أنه أجرى الأربعة الأحرف مثل أبي عمرو؛ وروى يحيى بن آدم أنه أجرى ثلاثة، في ‏[‏هود‏:‏ 69‏]‏

‏{‏ألا إِن ثموداً‏}‏ وفي ‏[‏الفرقان‏:‏ 38‏]‏ و‏[‏العنكبوت‏:‏ 38‏]‏‏.‏ وروى حفص عنه أنه لم يجر شيئاً منها مثل حمزة‏.‏

واعلم أن ثموداً يراد به القبيلة تارة، ويراد به الحي تارة‏.‏ فإذا أريد به القبيلة، لم يصرف، وإِذا أريد به الحي، صرف‏.‏ وما أخللنا به، فقد سبق تفسيره ‏[‏الأعراف‏:‏ 73، والتوبة‏:‏ 70‏]‏ إِلى قوله‏:‏ ‏{‏ولقد جاءت رسلنا إِبراهيم‏}‏ والرسل هاهنا‏:‏ الملائكة‏.‏ وفي عددهم ستة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنهم كانوا ثلاثة، جبريل، وميكائيل، وإِسرافيل، قاله ابن عباس، وسعيد بن جبير‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ جبريل، وميكائيل، وملك الموت‏.‏

والثاني‏:‏ أنهم كانوا اثني عشر، روي عن ابن عباس أيضاً‏.‏

والثالث‏:‏ ثمانية، قاله محمد بن كعب‏.‏

والرابع‏:‏ تسعة، قاله الضحاك‏.‏

والخامس‏:‏ أحد عشر، قاله السدي‏.‏

والسادس‏:‏ أربعة، حكاه الماوردي‏.‏

وفي هذه البشرى أربعة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنها البشرى بالولد، قاله الحسن، ومقاتل‏.‏ والثاني‏:‏ بهلاك قوم لوط، قاله قتادة‏.‏ والثالث‏:‏ بنبوَّته، قاله عكرمة‏.‏ والرابع‏:‏ بأن محمداً يخرج من صلبه، ذكره الماوردي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قالوا سلاماً‏}‏ قال ابن الأنباري‏:‏ انتصب بالقول، لأنه حرف مقول، والسلام الثاني مرفوع باضمار «عليكم»‏.‏ وقال الفراء‏:‏ فيه وجهان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه أضمر «عليكم» كما قال الشاعر‏:‏

فَقُلْنَا السَّلاَمُ فَاتَّقَتْ مِنْ أَمِيرِهَا *** فما كان إِلاَّ ومْؤُهَا بِالْحَواجِبِ

والعرب تقول‏:‏ التقينا فقلنا‏:‏ سلام سلام‏.‏

والثاني‏:‏ أن القوم سلَّموا، فقال حين أنكرهم هو‏:‏ سلام، فمن أنتم‏؟‏ لإِنكاره إِياهم‏.‏ وقرأ حمزة، والكسائي‏:‏ «قال سِلْم»، وهو بمعنى سلام، كما قالوا‏:‏ حِلّ وحلال، وحِرم وحرام؛ فعلى هذا يكون، معنى «سلِم»‏:‏ سلام عليكم‏.‏ قال أبو علي‏:‏ فيكون معنى القراءتين واحداً وإِن اختلف اللفظان‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ من قرأ «سِلْم» فالمعنى‏:‏ أمْرُنا سِلْم، أي‏:‏ لا بأس علينا‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فما لبث‏}‏ أي‏:‏ ما أقام حتى جاء بعجل حنيذ، لأنه ظنهم أضيافاً، وكانت الملائكة قد جاءته في صورة الغلمان الوِضَاء‏.‏ وفي الحنيذ ستة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنه النضيج، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة‏.‏

والثاني‏:‏ أنه الذي يَقْطُر ماؤُه وَدَسمُه وقد شوي، قاله شمر بن عطية‏.‏

والثالث‏:‏ أنه ما حفرتَ الأرضَ ثم غممتَه، وهو من فعل أهل البادية، معروف، وأصله‏:‏ محنوذ، فقيل‏:‏ حنيذ كما قيل‏:‏ طبيخ للمطبوخ، وقتيل للمقتول‏.‏ هذا قول الفراء‏.‏

والرابع‏:‏ أنه المشوي، قاله أبو عبيدة‏.‏

والخامس‏:‏ المشوي بالحجارة المحماة، قاله مقاتل، وابن قتيبة‏.‏

والسادس‏:‏ السميط، ذكره الزجاج، وقال‏:‏ يقال‏:‏ إنه المشوي فقط، ويقال‏:‏ المشوي الذي يقطر، ويقال‏:‏ المشوي بالحجارة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏70‏]‏

‏{‏فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ ‏(‏70‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلما رأى أيديهم‏}‏ يعنى الملائكة ‏{‏لاَتَصِلُ إِليه‏}‏ يعني العجل ‏{‏نَكِرَهُمْ‏}‏ أي‏:‏ أنكرهم‏.‏ قال أبو عبيدة‏:‏ نَكِرهم وأنكرهم واستنكرهم، سواء، قال الأعشى‏:‏

فَأَنْكَرَتْنِي وَمَا كان الَّذي نَكِرَتْ *** مِنَ الحَوَادِثِ إِلاَّ الشَّيْبَ والصَّلَعَا

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأوجس منهم خيفةً‏}‏ أي‏:‏ أضمر في نفسه خوفاً‏.‏ قال الفراء‏:‏ وكانت سُنَّةً في زمانهم إِذا ورد عليهم القوم فأتوهم بالطعام فلم يمسُّوه، ظنوا أنهم عدوٌّ أو لُصُوصٌ، فهنالك أوجس في نفسه خيفة، فرأوا ذلك في وجهه، فقالوا‏:‏ ‏{‏لا تخف‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنا أُرسلنا إِلى قوم لوط‏}‏ قال الزجاج‏:‏ أي‏:‏ أُرسلنا بالعذاب إِليهم‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ وإِنما أُضمر ذلك هاهنا، لقيام الدليل عليه بذكر الله تعالى له في سورة أخرى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏71- 72‏]‏

‏{‏وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ ‏(‏71‏)‏ قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ ‏(‏72‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وامرأته قائمة‏}‏ واسمها سارة‏.‏ واختلفوا أين كانت قائمة على ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ وراء الستر تسمع كلامهم، قاله وهب‏.‏

والثاني‏:‏ كانت قائمة تخدمهم، قاله مجاهد، والسدي‏.‏

والثالث‏:‏ كانت قائمة تصلي، قاله محمد بن إِسحاق‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏فضحكت‏}‏ ثلاثة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أن الضحك ها هنا بمعنى التعجب، قاله أبو صالح عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أن معنى «ضحكت»‏:‏ حاضت، قاله مجاهد، وعكرمة‏.‏ قال ابن قتيبة‏:‏ وهذا من قولهم‏:‏ ضحكت الأرنب‏:‏ إِذا حاضت‏.‏ فعلى هذا، يكون حيضها حينئذ تأكيد للبشارة بالولد، لأنَ من لا تحيض لاتحمل‏.‏ وقال الفراء‏:‏ لم نسمع من ثقة أن معنى «ضحكت» حاضت‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ أنكر الفراء، وأبو عبيدة، وأبو عبيد أن يكون «ضحكت» بمعنى حاضت، وعرفه غيرهم‏.‏ قال الشاعر‏:‏

تَضْحَكُ الضَّبْعُ لقَتْلى هُذَيْلٍ *** وَتَرَى الذِّئْبَ لها يَسْتَهِلُّ

قال بعض أهل اللغة‏:‏ معناه‏:‏ تحيض‏.‏

والثالث‏:‏ أنه الضحك المعروف، وهو قول الأكثرين‏.‏

وفي سبب ضحكها ستة أقوال‏:‏

أحدها‏:‏ أنها ضحكت من شدة خوف إِبراهيم من أضيافه، وقالت‏:‏ من ماذا يخاف إِبراهيم، وإِنما هم ثلاثة، وهو في أهله وغلمانه‏؟‏‏!‏ رواه الضحاك عن ابن عباس، وبه قال مقاتل‏.‏

والثاني‏:‏ أنها ضحكت من بشارة الملائكة لإِبراهيم بالولد، وهذا مروي عن ابن عباس أيضاً، ووهب بن منبه؛ فعلى هذا إِنما ضحكت سروراً بالبشارة، ويكون في الآية تقديم وتأخير، المعنى‏:‏ وامرأته قائمة فبشرناها فضحكت، وهو اختيار ابن قتيبة‏.‏

والثالث‏:‏ ضحكت من غفلة قوم لوط وقرب العذاب منهم، قاله قتادة‏.‏

والرابع‏:‏ ضكحت من إِمساك الأضياف عن الأكل، وقالت‏:‏ عجباً لأضيافنا، نخدمهم بأنفسنا، وهم لايأكلون طعامنا‏!‏ قاله السدي‏.‏

والخامس‏:‏ ضحكت سروراً بالأمن، لأنها خافت كخوف إِبراهيم، قاله الفراء‏.‏

والسادس‏:‏ أنها كانت قالت لإِبراهيم‏:‏ اضمم إِليك ابن أخيك لوطاً، فانه سينزل العذاب بقومه، فلما جاءت الملائكة بعذابهم، ضحكت سروراً بموافقتها للصواب، ذكره ابن الأنباري‏.‏

قال المفسرون‏:‏ قال جبريل لسارة‏:‏ أَبْشِري أيتها الضاحكة بولد اسمه إِسحاق، ومن وراء إِسحاق يعقوب، فبشروها أنها تلد إِسحاق، وأنها تعيش إِلى أن ترى ولد الولد‏.‏

وفي معنى الوراء قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه بمعنى «بعد»، قاله أبو صالح عن ابن عباس، واختاره مقاتل، وابن قتيبة‏.‏

والثاني‏:‏ أن الوراء‏:‏ ولد الولد، روي عن ابن عباس أيضاً، وبه قال الشعبي، واختاره أبو عبيدة‏.‏

فان قيل‏:‏ كيف يكون يعقوب وراء إِسحاق وهو ولده لصلبه، وإِنما الوراء‏:‏ ولد الولد‏؟‏ فقد أجاب عنه ابن الأنباري، فقال‏:‏ المعنى‏:‏ ومن وراء المنسوب إِلى إِسحاق يعقوب، لأنه قد كان الوراء لإِبراهيم من جهة إِسحاق، فلو قال‏:‏ ومن الوراء يعقوب، لم يُعلم أهذا الوراء منسوب إِلى إِسحاق، أم إِلى إِسماعيل‏؟‏ فأضيف إِلى إِسحاق لينكشف المعنى ويزول اللبس‏.‏

قال‏:‏ ويجوز أن ينسب ولد إِبراهيم من غير إِسحاق إلى سارة على جهة المجاز، فكان تأويل الآية‏:‏ من الوراء المنسوب إِلى سارة، وإلى إِبراهيم من جهة إِسحاق، يعقوب‏.‏ ومن حمل الوراء على «بعد» لزم ظاهر العربية‏.‏

واختلف القراء في «يعقوب»، فقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم‏:‏ «يعقوبُ» بالرفع‏.‏ وقرأ ابن عامر، وحمزة، وحفص عن عاصم‏:‏ «يعقوبَ» بالنصب‏.‏

قال الزجاج‏:‏ وفي رفع «يعقوب» وجهان‏.‏

أحدهما‏:‏ على الابتداء المؤخَّر، معناه التقديم؛ والمعنى‏:‏ ويعقوبُ يَحْدُثُ لها من وراء إِسحاق‏.‏

والثاني‏:‏ وثبت لها من وراء إِسحاق يعقوبُ‏.‏ ومن نصبه، حمله على المعنى، والمعنى‏:‏ وهبنا لها إِسحاقَ، ووهبنا لها يعقوبَ‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا ويلتي أألد وأنا عجوز‏}‏ هذه الكلمة تقال عند الإِيذان بورود الأمر العظيم‏.‏ ولم تُرِد بها الدعاء على نفسها، وإِنما هي كلمة تخفُّ على ألسنة النساء عند الأمر العجيب‏.‏ وقولها‏:‏ ‏{‏أألد‏}‏ استفهام تعجب‏.‏ قال الزجاج‏:‏ و‏{‏شيخاً‏}‏ منصوب على الحال‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ إِنما أشارت بقولها هذا لتنبِّه على شيخوخيَّته واختلفوا في سن إِبراهيم وسارة يومئذ على أربعة أقوال‏.‏

أحدها‏:‏ أنه كان إِبراهيم ابن تسع وتسعين سنة‏.‏ وسارة بنت ثمان وتسعين سنة‏.‏ قاله أبو صالح عن ابن عباس‏.‏

والثاني‏:‏ أنه كان إِبراهيم ابن مائة سنة، وسارة بنت تسع وتسعين، قاله مجاهد‏.‏

والثالث‏:‏ كان إِبراهيم ابن تسعين، وسارة مثله، قاله قتادة‏.‏

والرابع‏:‏ كان إِبراهيم ابن مائة وعشرين سنة، وسارة بنت تسعين، قاله عبيد بن عمير، وابن إِسحاق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏73‏]‏

‏{‏قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ ‏(‏73‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قالوا أتعجبين من أمر الله‏}‏ أي‏:‏ من قضائه وقدرته، وهو إِيجاد ولد من بين كبيرين‏.‏ قال السدي‏:‏ قالت سارة لجبرئيل‏:‏ ما آية ذلك‏؟‏ فأخذ بيده عوداً يابساً فلواه بين أصابعه فاهتزَّ أخضر، فقالت‏:‏ هو إِذن لله ذبيحٌ‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏رحمة الله وبركاته عليكم أهلَ البيت‏}‏ فيه وجهان‏.‏

أحدهما‏:‏ أنه من دعاء الملائكة لهم‏.‏

والثاني‏:‏ أنه إِخبار عن ثبوت ذلك لهم‏.‏

ومن تلك البركات وجود أكثر الأنبياء والأسباط من إِبراهيم وسارة‏.‏

والحميد بمعنى المحمود‏.‏ فأما المجيد، فقال ابن قتيبة‏:‏ بمعنى الماجد، وهو الشريف‏.‏ وقال أبو سليمان الخطابي‏:‏ هو الواسع الكرم‏.‏ وأصل المجد في كلامهم‏:‏ السَّعَة، يقال‏:‏ رجل ماجد‏:‏ إِذا كان سخياً واسع العطاء‏.‏ وفي بعض الأمثال‏:‏ في كل شجر نار، واستمجدَ المرْخُ والعَفَارُ، أي‏:‏ استكثرا منها‏.‏